داليا العفيفي تكتب: أمٌّ من رحم الحرب
قبل أن تطغى الحرب على حياتها، كانت منيرة امرأة عادية، تحيا حياة بسيطة مليئة بالسلام الداخلي كانت في الثلاثينيات من عمرها، متزوجة من أحمد، الرجل الذي اختارته قلبًا وعقلًا. كانت تحب رائحة القهوة الصباحية التي يعدها لها كل يوم، وتجده دائمًا يرسل لها نظرات مليئة بالحب وهو يراها تعتني بالمنزل وطفلها سند. كانت حياتها تدور حول أسرتها الصغيرة، وكانت تشعر دائمًا بالأمان في بيتها الذي بنوه معًا وسط الخضرة في الشمال، حيث الشوارع الهادئة والسماء الزرقاء.
كان أحمد، زوجها، يعمل في مجال البناء، وكان الرجل الذي يعتمد عليه الجميع في الحي. كان ركيزة الحياة بالنسبة لمنيرة، وكان لا يتأخر في مساعدة الآخرين أو في منحها الوقت الذي تحتاجه. كان لديهما طفل جميل، وكان يشكل مصدر سعادتها وطمأنينتها.
ما قبل الحرب
قبل اندلاع الحرب، كانت منيرة تعيش حياة مستقرة، مليئة بالمحبة والعناية. كانت تسير كل يوم بخطى ثابتة، تبدأ صباحها بالعناية بطفلها، ثم تساعد أحمد في بعض الأعمال المنزلية، ثم تجلس مع جارتها لتبادل الحديث والضحكات. كان لديهم العديد من الخطط المستقبلية؛ شراء بيت جديد، قضاء عطلة في البحر، وأحلام بسيطة تحققها من خلال عملها اليومي.
"كنت أعيش حياة عادية، حياة تملؤها الضحكات وحب العائلة، لم أكن أفكر في الحرب أو في الفقد. لم يكن في حساباتي أبدًا أن كل شيء قد يتغير بين عشية وضحاها".
التحول إلى النزوح
لكن فجأة، بدأ صوت القذائف يقترب من مكان سكنهم، وملأ الدخان سماء مدينتهم. كان الموت يقترب منهم بشكل لا يمكن تصوره. فقرر أحمد أن يظل في الشمال لحماية المنزل، بينما نصح منيرة بأن تترك المكان وتذهب مع طفلها إلى الجنوب، حيث الأمن المزعوم.
في البداية، كان قلب منيرة مثقلًا بالخوف، لكن كلماته كانت تملؤها بالطمأنينة: "اذهبي الآن، وسألحق بكم لاحقًا". لكن مع مرور الوقت، انقطع الاتصال به، وسقطت في دوامة من القلق والمخاوف. كان كل شيء حولها يتحطم.
العيش في الغربة
وصلت منيرة إلى مدينة دير البلح، التي لم تكن تعرفها، مع والدتها وطفلها ، كانت الأجواء هناك غريبة عليها؛ أماكن مكتظة بالنازحين، كل واحد يحمل آلامه الخاصة، والجميع يتمنى فقط الخلاص من هذا الواقع. كان الخوف يطاردها في كل زاوية، والوجوه التي تراها في كل مكان تحمل في عيونها حكايات أوجاع مشابهة.
كانت في الشهر الثامن من حملها، والبرد يتسلل إليها من كل جانب، والنزوح لا يوفر لها حتى لحظة استراحة. ومع كل خطوة تخطوها على طريق اللاجئين، كانت تتساءل في قلبها: "هل سيأتي أحمد؟ وهل سنلتقي مجددًا؟"
الولادة في عزلة
عندما حانت اللحظة، وكانت آلام المخاض قد بدأت، كان مستشفى دير البلح قد امتلأ بالنازحين الذين يحتاجون الرعاية. كانت منيرة وحيدة، إلا من أخواتها اللواتي كان لهن دور كبير في مواساتها. لم يكن هناك أحد ليمسك يدها غيرهن، لم يكن أحمد إلى جانبها كما كانت تأمل. في لحظة ولادتها، كانت دموعها خليطًا من الحزن والفرح، لكن في قلبها كان شعور عميق بالعزلة، وكأنها قد أنجبت غيثًا في عالم لا يعرف الرحمة.
مرور عام من الغياب
مع مرور الأيام، كانت منيرة تراقب نمو ابنها غيث عن كثب. كان يتعجب من كل شيء من حوله، لكن قلبها كان يعتصر من الشوق إلى أحمد، الذي لم يعد يستطيع الوصول إليهم. كانت منيرة ترسل له الصور متى ما سنحت الفرصة، وكانت كلماته عبر الهاتف تثير الحزن في قلبها أكثر: "هل يشبهني؟ هل يضحك كثيرًا؟ هل يقول 'بابا'؟" كانت تشعر أنها تقف على حافة العالم، تتمنى أن يلتقي غيث بوالده، لكن الحرب أبعدتهم عن بعضهم.
حالة منيرة النفسية في الحرب
منيرة الآن، بعد مرور عام على اندلاع الحرب، أصبحت شخصًا آخر. تلك المرأة التي كانت تشع حيوية وقوة، بدأت تشعر بتعب لا ينتهي، تعب يتجاوز الجسد ويغرق في أعماق روحها. "لقد أصبحت أحيانًا أشعر أنني أعيش في مكان آخر، بعيد عن نفسي. هل سأعود يومًا إلى حياتي السابقة؟" تقول منيرة بصوت منخفض، وكأنها تتساءل عن مصيرها في عالم مجهول.
لكن رغم كل شيء، لا تزال لديها القوة على مواجهة تحديات الحياة. "لا أستطيع الاستسلام. ليس من أجل نفسي، بل من أجل غيث وسند. إذا كان أحمد بعيدًا، فأنا هنا وسأظل أقاتل من أجلهم"، تضيف بحزن ممزوج بالأمل.
"ربما لن أعيش تلك الأيام السعيدة مجددًا، لكنني سأظل أعمل من أجل غيث، لأراه يحقق ما حلمت به أنا وأحمد، لأراه يعيش في عالم بعيد عن الحروب والدماء".
منيرة، رغم كل الصعوبات، لن تتخلى عن أملها في لقاء زوجها، وفي يوم من الأيام، حين يعود أحمد، ستلتقيه بحضن يملؤه الحب والفخر.