هل هناك علاقة بين الأخلاق والتقدم ؟
هذا سؤال قديم طرحه الفلاسفة عبر العصور، واختلفت إجاباتهم عليه. ولكن هذا السؤال يفرض نفسه من جديد عندما يرى الإنسان أن إشكالية الأخلاق لم تحل على الرغم من التقدم الكبير الذى حققته الإنسانية.
ليس المقصود هنا التقدم فى معناه المادى المتعلق بالعلم التكنولوجى ومنجزاته فقط، وإنما أقصد التقدم فى معناه العام المعنوى والمادي: التقدم الحضارى والثقافى والفنى والعلمى والدينى والسياسى الذى يصنع مجتمع الرفاه والعدل. إذن نحن نفهم التقدم بالمعنى الحضارى العام الذى يشمل كافة الجوانب الثقافية والعلمية والتكنولوجية والفكرية والدينية والفنية والأدبية والسياسية ونظم التشريع والقضاء… الخ.
لكن ما أخلاق التقدم؟
ليس المقصود فقط من أخلاق التقدم قيم وأخلاق العلم، مثل: الموضوعية، الأمانة، الحياد، استبعاد الأهواء النفسية، التحقق وعدم الحكم إلا بعد إثبات يقيني، الإتقان، إلخ. وإنما المقصود أيضاً أن أخلاق التقدم تشمل كذلك كيف يمكن للإنسان أن يحقق فى نفسه هذه الصفات، وكيف يمارسها فى حياته العملية، وعبر مدونة أو أجندة للسلوك يتفق عليها المجتمع. وبعبارة أخرى إن أخلاقيات التقدم هى أجندة أخلاقية تحتوى على مجموعة من السلوكيات والممارسات والآليات التى تحقق التقدم.
إن أى أخلاق للتقدم لابد أن تحتوى على «الحد الأدنى الأخلاقي» . لكن ما هو هذا الحد الأدنى؟
إنه عبارة عن معايير أخلاقية أساسية تشمل:
1- الحق الأصيل فى الحياة والعيش الكريم.
2- كيف يحقق الإنسان ذاته بوسائل مشروعة عبر تقاليد ثابتة للحركة والترقي.
3- المعاملة العادلة من الأفراد وأيضا من المجتمع.
4- الاندماج الذهنى والجسدى فى المجتمع.
ويطلق الفيلسوف الأمريكى «مايكل والزر» على ذلك «حد أدنى الأخلاق» أو «نواة الأخلاق». والمقصود هنا هى المفاهيم الأخلاقية التى يشار إليها بوصف «نحيلة»، أو النواة الأخلاقية التى يجمع عليها الناس، وهذه المبادئ «النحيلة» يتنامى محتواها ويكبر بالطبع فى الثقافات المختلفة، وهنا تتجلى كمبادئ «سميكة» فى أى مشهد تاريخى أو ثقافى أو دينى أو سياسى يتضمنها تبعا للمكان والزمان.
وليست أخلاق التقدم مذهباً أو أيديولوجية جديدة، وليست تعاليم من قبيل الفلسفات المذهبية الفوقية. ولا تهدف أخلاق التقدم إلى جعل الأخلاق المحددة للأديان المختلفة بمثابة أمر ثانوى أو نافلة، أى أنها ليست بديلا القرآن، أو للتوراة أو موعظة الجبل، أو الباجافاد جيتا الهندوسية، أو كلام بوذا، أو أقوال كونفوشيوس والمسيح ومحمد (صلى الله عليه وسلم).
ولا تعنى أخلاق التقدم ثقافة منفردة أو دينا بعينه. إنها لا تعنى أكثر من كونها «الحد الأدنى الضروري»لقيم ومعايير وسلوكيات إنسانية تقدمية يحتاج إليها مجتمعنا حتى ينهض نهضة حقيقية بعيدة عن المذاهب والمشاريع الفكرية الرنانة والتى ثبت فشلها.
إن أخلاق التقدم التى نسعى إليها هى محاولة الوصول إلى إجماع جوهرى على قيم ملزمة ومعايير محددة وسلوكيات أساسية يتم إقرارها من قبل جميع التيارات على اختلاف أيديولوجيتها وكل الأديان على اختلاف عقائدها فى مجتمعنا.
ومن المؤكد أن «استهلاك» مجتمعنا للعلم والتكنولوجيا لا يمكنه خلق أخلاق التقدم، ذلك لأن استهلاك العلم والتكنولوجيا دون إنتاجهما ينطوى على نوع من التبعية للآخر، وهذه التبعية تكرس أخلاق النهم للرفاهية، لا أخلاق إنتاج التقدم. كما أنها تكرس طغيان أخلاق الجشع الاستهلاكى وأخلاق التبعية، والوقوع فى الدائرة الجهنمية للاستهلاك.
ولقد ناقش كثير من الفلاسفة العلاقة بين الأخلاق والتقدم، أو العلاقة بين الفضيلة والعلم، مثل سقراط وأفلاطون وروسو وكانط.
وعلى خلاف الفلاسفة الذين يربطون الفضيلة بالعلم مثل سقراط وأفلاطون، ذهب «كانط»الفيلسوف الألمانى –متأثرا بجان جاك روسو الفيلسوف الفرنسي- إلى احترام الطبيعة الإنسانية بصرف النظر عن مستواها المعرفى الثقافي، فروسو حرره من الهوى الأعمى الذى يؤدى إلى احتقار الإنسان غير العارف، وعلمه – بفضل النقد الجذرى الذى وجهه للحضارة– أن الثقافة مهما تكن مهمة ليس لها أهمية الرقى الأخلاقي. فالعلاقة بين الإنسان العارف والإنسان الفاضل ليست علاقة حتمية، فالإنسان يمكن أن يتقدم فى العلوم والآداب والفنون دون أن يحقق الدرجة ذاتها من التقدم على المستوى الأخلاقي.
وقد نشأ «كانط»وترعرع فى كنف البيئة التى تسيطر عليها النزعة التقوية التى ترفع من مقام القلب والباطن، لكنه بعد تجاوز النشأة التقوية بفعل أفكار فلسفة الأنوار، اعتقد أن المعرفة العقلية والتقدم الحضارى والبحث العلمي، هى المقومات التى تستطيع تكوين شرف الإنسانية، ولذا احتقر الشعوب الجاهلة، لكن روسو هو الذى فتح أعينه على المعنى الحقيقى للإنسانية، فتلاشت هذه الكبرياء المخادعة، وتعلم أن يحترم الإنسانية، ويفصل الأخلاقية عن المعرفة.
وإذا كان روسو قد علم «كانط»عدم الدمج بين المعرفة والأخلاق، فإن كانط أمكنه التمييز بعيداً عن روسو بين المعرفة المنفصلة عن الأخلاق وبين المعرفة الحقيقية التى تتملك قيمة يمكن بها أن تصبح طبيعة الإنسان إنسانية؛ حيث تتفتح تلك الطبيعة من خلال المعرفة الحقيقية، وبالأحرى تغدو المعرفة ذاتها هى الطبيعة الحقيقية للإنسان.
تلك كانت إجابة بعض الفلاسفة على سؤال العلاقة بين الأخلاق والمعرفة، لكن يظل السؤال مفتوحاً ومطروحا عن العلاقة بين الأخلاق والتقدم الحضاري.. وهل يمكن الوصول الى تكوين منظومة أخلاقية نطلق عليها «أخلاق التقدم»؟
للحديث بقية إن شاء الله تعالى.
#محمد_الخشت
#القرآن_السنة_المتواترة
#الخطاب_الديني_الجديد
#جامعة_القاهرة